إن للعبادات آثاراً جليلة على السلوك الإنساني، فللصلاة أثرها، وللحج أُثره، وللزكاة والصدقات والإنفاق آثار، وللصيام أثره الجليل العظيم.
والناظر إلى المجتمع الإسلامي في شهر رمضان يعجب من الصلاح النسبي الظاهر في المجتمع خاصة في النهار، فمهما كان المجتمع بعيداً عن خلق الإسلام فسيتغير الحال في رمضان، فتمتلئ المساجد، ويختم أكثر الناس القرآن، ويكثرون من الذكر والتوبة.
ويرسلون الدموع، ويظهرون الخشوع، ويجهرون بالاعتراف، ويندمون على الاقتراف، ولهذا كانت مهمة الدعاة في رمضان هي تعميق هذه المعاني في النفوس، وحض الناس على التوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن الأثار الجليلة:
أولاً: التحكم في الشهوات وتقوية الإرادة:
وهذا أمر مهم جاء به الإسلام العظيم، فهذا الدين الجليل لم يجعل الوصول إلى رضى الله تعالى عن طريق الامتناع عن الملاذ والشهوات كما زعم أحبار النصارى ورهبانهم، إنما أباح ذلك للمسلم بضوابط.
وحثه على التحكم في شهواته، ومرادات نفسه، وفي هذا المعنى كتب الشيخ الجليل محمد بن عبدالعظيم الزرقاني عضو هيئة كبار العلماء في مصر، وتوفي سنة 1367/ 1947 رحمه الله تعالى:
"لقد علم ربك أنك مخلوق في وسط متدفق بالمنغصات والألم، متشبع بالمتاعب والأهوال ولا بد لانتصارك في هذا الميدان من أن تجالد وتجاهد، وتكافح وتنافح، وتبذل وتصبر، وتضحي وتثبت، وأنى يكون لك ذلك وأنت ضعيف الإرادة، منحل العزيمة، وضيع الهمة، ناقص الرجولة؟ لا ريب أن هذا الكمال لا يكون ألا من وهاب الكمال.
لهذا فرض عليك فريضة الصيام ليقوي من إرادتك، ويشد من عزيمتك ويرفع من همتك، ويكمل من رجولتك، فتصير مسلحاً بقوة الإرادة مزوداً بذخيرة الشجاعة، مستعداً استعداداً صالحاً لخوض ذلك العباب، ومغامرة هاتيك الصعاب.
نعم، قالت لك شريعته الغراء: جع فلا تأكل واعطش فلا تشرب، وامكث كذلك سحابة كل يوم من أيام رمضان، واستعن بالله ولا تعجز، وأنو هذا الصيام من الليل، واعزم وصمم، واصدق ولا تتردد، ثم قالت: إن الله لم يحرم عليك الزاد والماء لتتعذب، ولكن لتتهذب.
فإذا تمرنت على ترك ما هو ضروري لوجودك، سهل عليك ترك الشهوات والمعاصي وهي ليس من ضروريات وجودك، بل إنها بالعكس جناية على حياتك وخطر على وجودك.
وإذا كنت قد صبرت على هجر الطعام بمجرد العزم والتصميم على الصيام فأنت بهذه الإرادة تكون أشد اصطبارا على مقاطعة القبيح ومجانبة الحرام، إذاً فاترك المناكر واهجر السفاسف، وتلك حكمة من حكم الله في تشريع الصوم، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاري وأبو داود عن أبي هريرة، والزور هو الباطل.
وقال الأستاذ سيد، رحمه الله تعالى:
لقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع.
وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك، والذي تتناثر على جوانبه الرغبات والشهوات والذي تهتف بالسالكين آلاف المغريات.
وقال الأستاذ محمد عبدالله دراز عضو هيئة كبار العلماء في مصر، والمتوفي سنة 1377/ 1957، رحمه الله تعالى:
"إن ما في الصوم من كبت وحرمان، ليس هدفه هذا الكبت والحرمان وإنما الصوم وسيلة إلى غاية نبيلة.
إنه التدريب على السيادة والقيادة: قيادة النفس وضبط زمامها وكفها عن أهوائها ونزواتها.
بل إنه التسامي لتلك القيادة إلى أعلى مراتبها، فلقد كنت في بحبوحة الإفطار أنما تحمى جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في حظيرة الصوم تفطمه حتى عن الحلال الطيب.
ولقد كنت تكف لسانك على الشتم والإيذاء فأصبحت اليوم تصونه عن رد الإساءة، وعن إجابة التحريش والاستفزاز، فإن خاصمك أحد أو شاتمك لم تزد على أن تقول: إني صائم، إني صائم.
هكذا ملكت بالصوم زمامي شهوتك وغضبك، وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر.
فلئن كان الصوم قد علمك أن تصبر اليوم طائعاً مختاراً في وقت الأمن والرخاء، فأنت غدا أقدر على الصبر والمصابرة في البأساء والضراء وحين البأس.
ولئن كان الصوم قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك، فلقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غدا على عدوك".
ثانيا: الشعور بحال الفقراء والمساكين:
إن المرء مهما كان غنياً مترفاً مرفهاً فلا بد له من الصيام، وفيه يذوق آلام الجوع والعطش – خاصة في هذا الزمان فإن رمضان يأتي في شدة من الحر – والامتناع عن سائر الشهوات، وهو عندما يتقلب في مشاعر الحرمان هذه لا بد أنه سيذكر إخوانه المسلمين ومعاناتهم فيرق قلبه لهم، وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عبدالعظيم الزرقاني:
"ولقد علم ربك أيضاً إن الإنسان كثير النسيان لإخوانه البؤساء، قليل العطف على المعوزين والفقراء، فأمره بالصوم حتى يذوق شيئاً من آلامهم، ويحس بؤسهم ويشعر بوجدهم، فإذا رأى أنه لم يصبر على الجوع وحده يوماً كاملاً وتقدم إليه في آخره ألوان الطعام والشرب.
أدرك – إن كان فيه إحساس – كيف لا يستطيع أولئك البؤساء أن يصبروا على الجوع وغير الجوع عاماً كاملاً أو عمراً طويلاً لم يقدم لهم فيه لون من تلك الألوان في الطعام والشراب.
ولهذا حث الشارع على الجود والكرم، والإحسان والعطف خصوصاً في رمضان، وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، لهذا – أيضاً – شرع الله زكاة الفطرة في ختام رمضان، لأن هذا البذل حكمة مقصودة من تشريع الصيام.
ومن عرف قيمة الزكاة وأثرها في تقليل الجرائم وتقوية صفوف الأمة، وتحسين الروابط بين الأغنياء والفقراء، وصد تيار الاشتراكية المتطرفة، والشيوعية الطاغية، من عرف هذا تجلت له حكمة الإسلام في عنايته بذلك الواجب الاجتماعي الحيوي والتذرع له بكثير من الوسائل حتى بفرض الصيام على الغني ليشارك أخاه البائس في ألمه، تمهيداً لإشراكه إياه في شيء من ماله.
إن هذه لمعجزة كبرى من معجزات الإسلام الاجتماعية (تنـ زيل من حكيم حميد) فصلت: ٤٢ ".
ثالثا: تعديل السلوك وضبط التصرفات
أن لرمضان أثرا عظيما في ضبط السلوك الإنساني وإصلاح أخطاء الناس وفي هذا يقول الشيخ عبدالله خياط إمام المسجد الحرام المتوفى سنة 1415هـ/ 1995م يقول:
"وهو – أيضاً – شهر القرآن أنزله الله هدى ونوراً ودستوراً وفرقاناًَ بين الحق والباطل، هذا الشعور بجلال رمضان وما له من مكانة كثيراً ما يكون حافزاً على استصلاح الأخطاء في رمضان والعودة إلى حظيرة الله بالتوبة الصادقة، والإنابة الدائبة.
فكم من جبار في الأرض متسلط على العباد بسوط العذاب أقلع عن جبروته في رمضان أملاً في رحمة الله في شهر الرحمة وأدرك أن الشمول في الصيام هو العمدة، فللعين صيام وللأذن صيام، وللرجل صيام، ولكل جارحة في الإنسان صيام، ومن مجموع ذلك يتكون الصيام الزاكي الذي لا خدوش فيه ولا نكور.. .
ولعل مما يوجه الأنظار إلى هذا المسلك الراشد ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم في مزايا رمضان وفضائله "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيرات، وصفدت فيه الشياطين، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل.
ويا باغي الشر أقصر"، إذ إن من عوامل فتح أبواب الجنان وقفل أبواب النيران كثرة من يدخلها، إذ يزداد صاحب البر في بره في رمضان وحسن معاملته لله واستدامة طاعته، ويقصر صاحب الإثم عن نزوته ويرتدع عن غوايته وظلمه فيكون ذلك سبباً في شموله برحمة الله في رمضان ودخوله دار كرامته إلى جانب البررة الصالحين من أوليائه.
رابعاً: تعميق المراقبة لله تعالى:
أن الصيام يعمق في الإنسان المراقبة لله تعالى في كل حركاته وسكناته، والمراقبة سر من أسرار الإسلام لا تعرفه الأمم ولا تستعمله لضبط سلوك المجتمع والأفراد وفي هذا قال الأستاذ محمد أبو شهبه العالم المصري المعروف:
"ومن الصفات النفسية التي يربيها الصوم في نفس الصائم صفة المراقبة، مراقبة الله عز وجل في السر والعلن والغيبة والشهود، والمسلم إذا راقب الله حق المراقبة فقد بلغ غاية الإحسان، وفي حديث جبريل المشهور الذي كان رواه الشيخان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الإحسان؟
قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ولا تكاد تجد عبادة تتجلى فيها مراقبة الله مثل الصوم، فالصائم الذي لا يراقب الله سبحانه ربما يأكل ويشرب في الخفاء ثم يظهر أمام الناس بمظهر الصائم المتنسك.
فالصوم في الحقيقة سر بين العبد وبين ربه، ولا يطلع على حقيقته إلا الله، ولكونه سراً بين العبد وبين ربه أضافه الله إلى نفسه وشرفه بهذه الإضافة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإنه سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم.. . ) الحديث.
ولا يزال الصوم يقوي من صفة المراقبة حتى تصير ملكة من الملكات النفسية، وإذا صارت ملكة راسخة تحكمت في سلوك الإنسان ووجهته إلى المسارعة في الخيرات والإحجام عن المنكرات، إذ كلما أمرته نفسه الأمارة بالسوء بمنكر تذكر عظمة الله وجلاله وأنه مطلع عليه ومراقب له فتقول له:
اترك ولعمل الخير أسرع، وصدق الله حيث يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) الأعراف: ٢٠١ وصلاح الأفراد والجماعات متوقف إلى حد كبير على هذا الوازع النفسي الذي يجعل من صاحبه رجلاً حاضر القلب متيقظ الشعور حي الضمير.
ولو أن كل إنسان وكل إليه أمر من الأمور راقب الله في عمله وفيمن تحت يده، وتيقن أن هنا محاسباً لا يغفل لقطع دابر الفساد والشرور والآثام، ولساد الحق وعم الخير البلاد والعباد.
خامساً: تحرير الروح والسمو بالعبادة:
وهذا معنى جلي واضح في رمضان، ولعظمه، ولعظم الآثار المترتبة عليه سأفرده في الحديث الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
الكاتب: الدكتور محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ